فصل: مسألة الجيش يصاح فيهم بأرض الروم السلاح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة السرية كم هي:

ومن كتاب الوضوء والجهاد:
وسئل مالك عن السرية كم هي؟ قال: وما يقال فيها؟ فقيل: يقال خير السرايا أربع مائة. قال: قد بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عبيدة على سرية فيهم ثلاثمائة، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث الرجل والرجلين على سرية، أفكانت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعمائة؟
قال محمد بن رشد: قد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة، إلا أن تفترق كلمتهم». ولهذا وقع سؤال مالك عن خير السرايا، فأنكر سؤال السائل؛ إذ لم يعرف الحديث، قد روي، فإذا اتفق أن تكون السرية أربعمائة، والجيش أربعة آلاف، كان الخير لهم مرجوا والنصر لهم مأمولا أكثر من غيرهم- وإن زاد عددهم- إن شاء الله.

.مسألة خيبر افتتحت عنوة أم بقتال:

وقال مالك: لما غزا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر غشيها في برد شديد، فقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا لا نستطيع القتال، فقال لهم عَلَيْهِ السَّلَامُ: لم؟ فقالوا البرد والجوع والعري، فقال الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا»، ففتح الله عليهم خيبر.
قلت لمالك: أفرأيت خيبر افتتحت عنوة أم بقتال؟ فقال: افتتحت بقتال شيء يسير منها.
قلت: فخمست؟ قال: نعم خمست، إلا ما كان منها عنوة أو صلحا، فإن ذلك لم يخمس وهو يسير.
قلت له: العنوة والقتال أليس بواحد؟ فقال لي: إنما أردت الصلح، وقد سمعت ابن شهاب يقول: افتتحت عنوة منها بقتال، وإنما أردت الصلح، وقد قال ابن شهاب: عنوة وقتال، ولست أدري ما أراد بذلك، وقال مالك: قسمت خيبر ثمانية عشر سهما على ألف وثمانمائة رجل، لكل رأس سهمه؛ لعمر بن الخطاب سهمه، ولبلال سهمه، ولفلان سهمه- حتى سمى رجالا، قال مالك: وصدقات رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ كانت من أموال بني النضير- ولم تخمس؛ لأنها كانت صافية، وخمس رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ قريظة؛ لأنها كانت بقتال، وقال مالك: أجلى عمر أو النبي أهل خيبر، وأما أهل فدك، فصولحوا على النصف لهم، والنصف للمسلمين، فلما كان عمر بن الخطاب أجلاهم منها، وأقام لهم النصف الذي كان لهم، فأعطاهم به حبالا وأقتابا؛ وما فضل لهم أعطاهم به ذهبا، اشترى ذلك عمر بن الخطاب منهم؛ فقال المسلمون: اشتراه عمر لنفسه، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فخطب الناس وأخبرهم بالذي بلغه، وقال: بأي شيء اشتراه ابن الخطاب، أبمال أبيه وأمه؟ إنما اشتراه من بيت مال المسلمين؛ فقيل له أفرسول الله صالح أهل فدك؟ قال: نعم، وعمر بن الخطاب الذي أجلاهم.
قال محمد بن رشد: إنما قال رسول الله عليه السلام في خيبر «اللهم افتح عليهم اليوم أكثرها طعاما وودكا»؛ لأنه كان لخيبر حصون كثيرة، ففتح الله عليهم ذلك اليوم بدعاء النبي عليه السلام خيبر نفسها، ولا شك أنها كانت أكثرها طعاما وودكا، وقد قيل في حصن الصعب بن معاذ إنه لم يكن في حصون خيبر أكثر طعاما وودكا منه، وكانت خيبر نفسها أكثر طعاما وودكا منه؛ بدليل الحديث المذكور- والله أعلم- وقول مالك في خيبر إنها افتتحت بقتال شيء يسير منها- يريد إنما قوتل اليسير من حصونها، وأكثرها غلبهم عليها المسلمون دون مناصبة لقتال، فخمس جميع ذلك؛ إذ كان مما أوجف عليه بالخيل والركاب- وإن لم يكن في بعضها قتال، وإنما كان عنوة بغير قتال، وقوله إلا ما كان منها عنوة أو صلحا، فإن ذلك لم يخمس وهو يسير. معناه: إلا ما كان منها عنوة وصلحا؛ لأن أو قد تكون بمعنى الواو، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]- يريد آثما ولا كفورا. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الجهاد- مع ما نال من أجر أو غنيمة. يريد من أجر وغنيمة؛ لأن الغنيمة لا تحبط الأجر، فالمراد بقوله إلا ما كان منها عنوة أو صلحا. أي إلا ما اجتمع فيه الأمران جميعا؛ لأنهم لما خافوا الغلبة وأيقنوا بها، أرسلوا إلى النبي عليه السلام في أن يصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ذلك في حصنين من حصونهم الوطيح، والسلاليم، فكان لهذين الحصنين حكم ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب- على ما ذهب إليه مالك، وابن شهاب؛ فلم تخمس، ولا كان لأحد فيها مع رسول الله عليه السلام شيء، فقطع منها لأزواجه على ما قال في آخر السماع، وكذلك الكتيبة قيل فيها، إنها كانت صلحا صافية لرسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ كبني النضير، وفدك، التي قال فيها الله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]- الآية. وذهب ابن إسحاق إلى أن خيبر كانت عنوة كلها. وإلى هذا ذهب ابن عبد البر، فقال: الصحيح ما قاله ابن إسحاق، وأن رسول الله، عَلَيْهِ السَّلَامُ خمَّس أرض خيبر كلها، وقسمها بين من شهد الغزاة وهم أهل الحديبية؛ لأن أرض ذينك الحصنين مما غلب عليه المسلمون كسائر أرض خيبر، وإنما كان الصلح في الرجال والذرية والعيال. ومعنى قول ابن شهاب عنوة وقتال يريد صلحا لجؤوا إليه لما خافوا الغلبة والأسر في ذينك الحصنين، وقتالا فيما سواهما؛ أو ما له حكم القتال مما أوجف عليه بالخيل والركاب، ولم يكن فيه صلح ولا قتال. فهذا معنى قول ابن شهاب على ما يعرف من مذهبه في أن بعض خيبر افتتحت بصلح، فما أوجف عليه بالخيل والركاب، فاستفتح بغير قتال، مثل أن يفر عنه أهله قبل وصولهم إليهم، أو ينزلوا إليهم ويستأسروا في أيديهم، أو يصالحوهم على جزء من أموالهم وأراضيهم، أو على ذهب يعطونهم على أن ينصرفوا عنهم، فذلك كله بمنزلة ما استفتحوه وغنموه بقتالهم، يخمس ويقسم الباقي بينهم على حكم الغنيمة، وما جلى عنه أهله مخافة أن يغزوا أو أرسلوا فصالحوا مخافة ذلك، فهي فيء لا تخمس، ويكون له كله حكم الخمس، وذهب ابن لبابة إلى أن العنوة على وجهين، فما كان منها بقتال يخمس وتكون الأربعة الأخماس بين الموجفين، وما كان منها بغير قتال، فهو كالصلح يكون فيئا ولا يخمس، وقال: إن ذلك معنى ما في المدونة، وتبينه رواية أشهب هذه؛ وتؤول أن معنى قوله فيها افتتحت خيبر بقتال شيء يسير منها، أن القتال كان يسيرا، والإصابة كثيرة؛ وقال: إن الذي دل عليه قول مالك، وابن شهاب فيها، أنه افتتح أكثرها عنوة بقتال، وهو الذي خمسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقسمه، وافتتح بقيتها- وهو اليسير منها بعضه عنوة بغير قتال، وبعضه صلحا، فلم يخمس وكان صافيا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقوله فيما ذهب إليه من تفصيل العنوة بعيد من الصواب. وقول مالك قسمت خيبر ثمانية عشر سهما، يريد إلا ما كان منها صلحا على سبيل العنوة بغير قتال، فلم يخمس ولا قسم على ما تقدم من قوله، وعلى ما يأتي له في آخر السماع؛ وقد مضى في رسم البز من سماع ابن القاسم، القول في وجه قسم رسول الله عليه السلام أرض خيبر على مذهب مالك، وما ذكر من الاختلاف في ذلك، وقول مالك: إن صدقات رسول الله عليه السلام كانت من أموال بني النضير، ولم تخمس؛ لأنها صافية، يبين أن ما وقع في المدونة من أنه قسم النضير بين المهاجرين وثلاثة من الأنصار، معناه ما بقي بعد صدقاته منها، وإنما خص بذلك المهاجرين دون الأنصار، حاشا سهل بن حنيف، وأبا دجانة، والحارث بن الصمة؛ لأنه كان شرط على الأنصار في بيعة العقبة أن يواسوا من يأتيهم من المهاجرين، فكانوا يكفونهم المئونة، ويقاسمونهم في الثمر، فلما جلى بنو قينقاع وبنو النضير، قال لهم رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«إن شئتم بقيتم على ما كنتم عليه وقسمت لكم، وإن شئتم رجعت إليكم أموالكم وقسمت لهم دونكم، فاختاروا ذلك. ففعله رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ»، والشك في قوله أجلى عمر أو النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أهل خيبر، إنما هو ممن دون مالك من الرواة- والله أعلم؛ لأنه قد علم أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أقرهم لعمارة الأرض، وأن عمر بن الخطاب هو الذي أجلاهم في خلافته، لما صح عنده أن النبي عليه السلام قال: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب». فأخذ المسلمون سهامهم فتصرفوا فيها تصرف المالكين، وجزيرة العرب مكة والمدينة واليمن- قاله مالك.

.مسألة رهنه أبوه في أيدي العدو ثم مات أبوه:

قال: وسئل مالك عن رجل من المسلمين رهنه أبوه في أيدي العدو، ثم مات أبوه، فخرج رجل من المسلمين إلى أرض العدو فافتكه وجاء به؛ على من ترى ما افتكه به الرجل، أعلى الغلام في حصته من مال أبيه؟ أم من جملة مال أبيه؛ لأنه هو الذي رهنه؟ فقال: لو افتداه السلطان أيترك رجل من المسلمين في أرض العدو؟
قال محمد بن رشد: قوله لو افتداه السلطان يريد من بيت مال المسلمين صحيح؛ لأنه هو الذي يجب في جميع من أسر من المسلمين، وقد مضى القول على هذا المعنى في أول رسم من السماع، فإن لم يفعل السلطان ذلك، ولا تطوع به أحد من المسلمين؛ فالواجب أن يكون ما افتكه به من رأس مال أبيه الذي رهنه، فإن لم يف ماله بذلك، كان ما بقي في مال الابن المفدى- إن كان له مال- اتبع به دينا في ذمته على ظاهر الروايات، والذي يوجبه النظر ألا يتبع بشيء من ذلك، وهذا إذا كان الأب أسيرا فرهن ابنه مكانه، وأما إن كان رهنه في تجارة أخذها، فلا يلزم السلطان أن يفتكه إن كان في تركته وفاء بذلك؛ قال سحنون: وإن كان رهنه في مصلحة المسلمين، وما ينزل بينهم وبين العدو، ثم التاث الأمر، فعلى الإمام فداؤه واجب.

.مسألة السرية تخرج في أرض الروم مغيرة فهلكت دابة أحدهم:

وسئل مالك عن السرية تخرج في أرض الروم مغيرة. وهم إذا هلكت دابة أحدهم لم يعطفوا عليه ولم يتخلفوا له؛ وقالوا له غيض حتى يرجع العسكر، فيدعونه في أرض الروم، وتوجهوا؛ فإن ظفر به الروم أخذوه؟ أفيعجبك أن يدخل معهم- وهم هكذا؟ فقال: إذا كان هكذا، فما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن الغرر في ذلك بين، والهلاك فيه أغلب؛ ولا ينبغي للرجل أن يغرر بنفسه، ولا أن يدخل في السرية، إلا إلى موضع تكون فيه النجاة عنده أغلب، والله تعالى أعلم.

.مسألة الإقامة بأرض العدو والانقطاع إليها:

وسئل عن الإقامة بأرض العدو والانقطاع إليها، أذلك أفضل، أم الإقبال والإدبار؟ فقال: ذلك حسن واسع.
قال محمد بن رشد: إنما لم يفضل أحد الوجهين على الآخر، من أجل أنه لا نص في ذلك؛ والفضائل لا تدرك بالقياس، وإنما هي عطايا من الله على قدر نية العبد؛ «قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في عثمان بن مظعون إن الله قد أوقع أجره على قدر» نيته. وقال: «نية المؤمن خير من عمله».

.مسألة البقر من بقر الروم لا يقدر المسلمون على أخذها إلا بالعقر والطعن:

قال: وسئل مالك عن البقر من بقر الروم، لا يقدر المسلمون على أخذها إلا بالعقر والطعن؛ فإذا عقرت ذبحت بعد ذلك، فقال: إنسية؟ فقيل نعم بقر الروم؛ فقال: لا أرى ذلك، هؤلاء قوم يطلبون الخير في الغزو وهم يفعلون هذا، فقيل له: إن لم يفعلوا بها هذا لم يقدروا عليها؛ فقال: أرأيت البدنة إذا لم يقدروا على نحرها- وكانت هكذا، أيعقرها ثم ينحرها؟ هذه الأباطيل!
قال محمد بن رشد: قد مضى القول على هذه المسألة في رسم الجنائز، والذبائح، والنذور، فلا معنى لإعادته.

.مسألة الجيش يصاح فيهم بأرض الروم السلاح:

قال: وسئل مالك عن الجيش يصاح فيهم بأرض الروم: السلاح، فيأخذ الرجل عليه سلاحه، ثم يتوجه فيلقى جيشهم، أترى بأسا أن ينحاز راجعا- إلى أصحابه؟ فقال لا أرى بذلك بأسا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين- كما قال إنه إنما انحاز إلى فيئته، وقد قال عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16].

.مسألة تحريق بيوت الروم وأشجارهم:

وسئل عن تحريق بيوت الروم وأشجارهم، فقال: لا أرى بذلك بأسا، قد قطع رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ النخيل، قيل له فترى أن يقتل خنازيرهم؟ فقال: نعم تقتل.
قال محمد بن رشد: قد مضى القول في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم ما في تحريق بيوت الروم وتخليهم، فلا معنى لإعادة ذلك؛ وأما خنازيرهم، فلا إشكال في أن الواجب فيها أن تقتل.

.مسألة الرجل يشتري الجارية في مقاسم الروم:

وسئل مالك عن الرجل يشتري الجارية في مقاسم الروم، فإذا انصرف بها وجد معها الحلي؛ فقال: لا أرى بما كان من هذا يسيرا بأسا من القرطين وأشباهها، فأما ما كان منها كثيرا له بال، فلا أرى ذلك؛ فقيل له: إنهم أيضا ربما باعوا بأرض الروم الكبب والخيوط، وما أشبه ذلك- بالدرهم ونحوه؛ فإذا انصرف الرجل إلى بلده، فاحتاج إلى- تلك الخيوط، ففتحها وجد فيها الصليب من الذهب، يكون فيه سبعون مثقالا، فقال: أرجو ألا يكون بذلك بأس، كيف يصنع به وقد تفرقوا وصار إلى بلده، وهؤلاء هاهنا بالشام لا يدري ما يصنع به.
قال محمد بن رشد: قوله فيما يجد من الحلي مع الجارية التي اشترى في المقاسم، فأما ما كان منه كثيرا له بال- فلا أرى ذلك- يريد وإن كان يشبه أن يكون من هيئتها ولباسها، خلاف ظاهر ما في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب التجارة إلى أرض الحرب، وهذا هو الصحيح؛ إذ إنما يصح أن يكون للمشتري ما يكون من هيئتها ولباسها- وإن كان كثيرا، إذا كان ذلك عليها حين البيع فعلمه البائع، وأما ما أخفته عنه فلم يعلم به فهو له، يبين هذا ما في أول سماع ابن القاسم من كتاب جامع البيوع، وقوله فإذا انصرف بها- يريد إلى رحله لا إلى بلده، بدليل قوله في مسألة الصليب بعدها، أرجو ألا يكون بذلك بأس إذا رجع إلى بلده، ووجه قوله أرجو ألا يكون بذلك بأس، هو أنه لما لم يمكنه قسمة ذلك عن الجيش لافتراقه، وكان قد حصل عنده بأمر جائز، لا عن غلول؛ صار حكمه حكم اللقطة بعد التعريف واليأس من وجود صاحبها- في جواز أكلها لملتقطها، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شأنك بها. لأن مالكا إنما كره له أكلها بعد التعريف، مخافة أن يأتي صاحبها فيجده عديما لا شيء له، ولو علم أنه لا يجد صاحبها أبدا، لما كره له أكلها، وافتراق الجيش في هذه المسألة كاليأس من وجود صاحب اللقطة، وهذا في الأربعة الأخماس الواجبة للجيش؛ وأما الخمس، فواجب عليه أن يضعه في موضع الخمس، ولو كان قد غل السبعين مثقالا ثم تاب بعد افتراق الجيش، لوجب عليه أن يتصدق بها، ولما جاز له أكل شيء منها على ما مضى في رسم حلف بطلاق امرأته من سماع ابن القاسم.

.مسألة لأهل الإسكندرية المقام بها إذ هي محرس يخشى العدو فيها:

قال: وسئل مالك فقيل له: أترى علينا بأسا في تخليفنا أهلنا بالإسكندرية وإقامتنا عندكم، ولم ندرك الإسكندرية نزل بها عدو قط، وإنهم ليخافون، فقال: أنتم تخبروني أن ما ثم ضائع، وأنه مخوف، وإن أهلها قليل، وإن محارسها خالية، فأرى لو لحقتم بها، فإني أرجو لهم في ذلك خيرا، تكونون مع أهليكم ومن ورائهم، ومن وراء المسلمين أيضا. فقيل له: أتخاف علينا مأثما في مقامنا عن أهلنا، وتخليفنا إياهم هناك- وهم على ما وصفت لك؟ فقال: أما مأثم، فلا أدري ما المأثم؟ ولكني أرى في ذلك خيرا، وأنتم أعلم بقدر خوفكم عليها، والخوف الذي هم فيه، وإني لا أرى حسنا أن يكون الرجل في مثل هذا عند أهله، ويكون من وراء المسلمين؛ ولا أدري ما المأثم في تركهم، ولكن ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: رأى مالك رَحِمَهُ اللَّهُ لأهل الإسكندرية المقام بها، إذ هي محرس يخشى العدو فيها، أفضل لهم من الإقامة عنده لتعلم العلم، ولم ير ذلك فرضا عليهم فيأثمون بتركه؛ فقال: لا أدري ما المأثم؟ ولكن أرى في ذلك خيرا؛ وإذ رأى ذلك لهم أفضل من الإقامة على تعلم العلم، فهو عنده أفضل لهم من الجهاد؛ لأن تعلم العلم أفضل من الجهاد- على ما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وذلك لما اختص بهم من حفظ محارسهم التي هي بلادهم، بخلاف الرباط، إذ من قوله «إن الغزو على إصابة السنة أفضل من الإقامة» على ما مضى في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم.

.مسألة يعطى الشيء يقسمه في سبيل الله على المجاهدين وهو أحدهم أيأخذ منه:

وسئل مالك عن الرجل يعطى الشيء من المال يقسمه في سبيل الله على المجاهدين وهو أحدهم، أيأخذ منه لنفسه شيئا؟ فقال: أحب إلي أن يعلم رب المال إذا كان من المجاهدين؛
قال: وسئل مالك عمن أعطي ثلاثين دينارا أو أربعين دينارا، فقيل له: خذ هذه فاقسمها في سبيل الله، فإن احتجت إلى شيء منها فخذه؛ فخرج بها فيحتاج منها إلى دينار يقضي به دينا عليه، فيأخذه فيقضيه رب الدين، وإنما يعطي الناس منها نصفا نصفا، قال: إن كان الذي أعطاه إياها أراد هذا، فلا بأس عليه في ذلك؛ فقيل له: أما هو فقال إن احتجت إلى شيء منها فخذه، وكان عليه دينار، فأخذه منها فقضاه؛ قال: إني أخاف أن يكون عليه لآخر ثلاثون دينارا، فإن كان صاحب الدنانير أراد هذا فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: استحب مالك لمن أعطي مالا يقسمه على صنف من الناس- وهو منهم، ولم يقل له معطيه إن احتجت إلى شيء منه فخذه- وكان عليه دينار فأخذه منها- ألا يأخذ لنفسه منه شيئا، إلا أن يعلمه بذلك، فإن أخذ ولم يعلمه، أعلمه بذلك،- قاله في سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات؛ فإن استأذنه في الأخذ- ولم يأذن له لم يجز له أن يأخذ، وإن أعلمه بما يأخذ فلم يمضه له، وجب عليه غرمه؛ لأنه أعلم بما أراد بماله؛ وإن لم يستأذنه في الأخذ ولا أعلمه بما أخذ حتى فات إعلامه، تخرج ذلك على قولين، أحدهما: أنه لا شيء عليه فيما أخذ؛ لأنه من ذلك الصنف؛ فهو يدخل مدخلهم بالمعنى، وهو مذهب مالك؛ لأنه إنما استحب له استئذانه وإعلامه ولم يوجب ذلك عليه. والثاني:
أنه يجب عليه إخراج ما أخذ حتى يضعه في الصنف الذي أمره أن يضعه فيهم، وهذا جار على اختلاف أهل الأصول في الأمر بالشرع، هل يدخل في الأمر أم لا يدخل فيه؟ لأنه يأتي على مذهب من رأى أنه يدخل فيه الأمر؛ لأنه من جنس المأمورين المشروع لهم الشرع أن يأخذ منهم المقاسم؛ لأنه من جنس المقسوم عليهم، وكان صاحب المال أعلم قاسمه الذي دفعه إليه أنه قد أوجبه لذلك الصنف، فدخل مدخلهم فيه؛ وأما إذا قال له إن احتجت إلى شيء منه فخذه، فجائز له أن يأخذ منه مثل ما يعطي غيره بالمعروف دون أن يحابي نفسه، ولا يجوز له أن يأخذ منه لنفسه أكثر مما يعطي غيره، إلا أن يعلم أن صاحب الدنانير يرضى بذلك ويريده.

.مسألة أعطي شيئا في سبيل الله فقضى رباطه وقد بقي معه منه فضل:

قال: وسئل مالك فقيل له: إني ربما أعطيت الدراهم لأقسمها في سبيل الله، فأجد الرجل قد قضى رباطه وهو يريد الانصراف إلى أهله، فلا يجد ما يتحمل به؛ أفترى أن أعطيه منها؟ فقال: إنما أعطيتها لتجعلها في سبيل الله، وهذا منقلب ليس في سبيل الله، فأحب إلي أن تعطيها غيره. قال: وسألته عمن أعطي شيئا في سبيل الله فقضى رباطه، وأراد الانصراف إلى أهله، وقد بقي معه منه فضل؛ أينصرف به فيأكله في انصرافه أم في أهله؟ فقال: ما يعجبني ذلك، وأرى أن يعطيه غيره من أهل السبيل، أم يرده إلى الذي أعطاه إياه.
قلت: فأيهما أحب إليك أيعطي بقية ذلك رجلا من أهل سبيل الله؟ أم يرده إلى الذي أعطاه إياه؟ قال لي: كل ذلك واسع.
قال محمد بن رشد: أما في بلده بعد انصرافه، فلا يجوز له أن يأكل منه شيئا باتفاق، واختلف هل يأكل منه في انصرافه أم لا؟ وقد مضت هذه المسألة في مواضع من سماع ابن القاسم، والقول عليها موعبا في أول رسم منه، فلا وجه لإعادة شيء منه، وبالله التوفيق.

.مسألة يخرجون في أرض الروم مع الجيش فيحتاجون إلى العلف لدوابهم:

قال: وسئل مالك عن القوم يخرجون في أرض الروم مع الجيش، فيحتاجون إلى العلف لدوابهم، فتخرج الجماعة إلى هذه القرية، وهذه الجماعة إلى هذه القرية الأخرى- يتعلفون لدوابهم، فربما غشيهم العدو فيما هنالك- إذا رأوا غرتهم وقلتهم، فقتلوهم أو أسروهم، أو نجوا منهم؟ فقال لهم: لا أرى ذلك لكم أن تغروا بأنفسكم فتخرجوا في غير كثف تخرجون في قلة؛ فإذا فعلتم، فلا تبيعوا من ذلك شيئا، فقيل له: ما يفعل؟ قال: قد بلغني ذلك عندكم، فلا أرى لكم أن تبيعوا منه شيئا، فقيل له: إنه ربما تعلفنا ولا نستأذن الإمام، وربما يخرج علينا، فإن تركنا دوابنا هلكت، قال: أرى إذا استطعتم استئذان الإمام أن تستأذنوه، ولكن الناس أكثر من ذلك، فلا أرى أن تغرروا بأنفسكم فتعتلفون في غير عدة ولا كثرة، لا أرى ذلك. وسئل مالك عن العدو ينزل بساحل من سواحل المسلمين، أيقاتلهم المسلمون بغير استئمار الوالي؟
فقال: أرى إن كان الوالي قريبا منهم- أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم، وإن كان بعيدا لم يتركوهم حتى يقعوا بهم، فقيل له: بل الوالي بعيد منهم، فقال: كيف يصنعون أيدعونهم حتى يقعوا بهم، أرى أن يقاتلوهم.
قال محمد بن رشد: وهذا كله كما قال إنه لا ينبغي لهم أن يغرروا بأنفسهم في تعليفهم، وأن الاختيار لهم أن يستأذنوا الإمام في ذلك إن استطاعوا، ويلزمهم ذلك إذا كان الوالي عدلا على ما قاله ابن وهب في سماع زونان، وإنه لا يجوز لهم أن يبيعوا شيئا من ذلك؛ لأن سنة الطعام في أرض الحرب أن يؤكل ويعلف ولا يباع، فإن بيع شيء منه صار مغنما، وأن قتال العدو بغير إذن الإمام لا يجوز، إلا أن يدهمهم فلا يمكنهم استئذانه.

.مسألة افتتاح فدك:

قال. وسألته عن افتتاح فدك، فقال: افتتحت عنوة بغير قتال على النصف لرسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ، والنصف لهم؛ فلم يكن لمن دخلها مع رسول الله فيها شيء، ولم يكن فيها خمس؛ لأنها افتتحت عنوة بغير قتال. قال: ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، فلم يكن فيها خمس ولم يكن لأحد دخلها مع رسول الله عليه السلام فيها شيء؛ فهي اليوم قائمة ليس لأحد فيها شيء، ولم يكن فيها خمس، وافتتحت خيبر، فمنها ما افتتح عنوة بغير قتال، ومنها ما افتتح بقتال؛ فأما ما افتتح عنوة بغير قتال، فلم يكن فيها خمس، ولم يكن لأحد ممن دخلها مع رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ فيها شيء، قطع رسول الله لأزواجه منها؛ وأما ما افتتح منها بقتال، فخمسه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقسم ما بقي على الذين افتتحوها، كانوا ألفا وثمانمائة، فقسم ذلك رسول الله على ثمانية عشر سهما، كل مائة رجل لهم سهم؛ فإنما يكون الخمس فيما غنمه المسلمون بقتال؛ لأنه أوجف عليهم بالخيل والركاب؛ وأما ما افتتح عنوة بغير قتال، فليس لأحد ممن افتتح ذلك فيه شيء، ولا خمس فيه؛ لأنه لم يوجف عليه بالخيل والركاب. قال مالك: والعنوة من الصلح يطيعون لهم بغير قتال فيفتتح ذلك بغير قتال، ولا إيجاف خيل ولا ركاب.
قال محمد بن رشد: كان فدك مما أفاء الله على رسوله بما نصره به من الرعب، وخصه به، فلم يكن لأحد معه فيه شيء، كبني النضير، وبني قينقاع؛ قال عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]. وما افتتح بعد النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ عنوة، فهو للذين افتتحوه بالإيجاف عليه، وفيه الخمس وإن لم يكن بقتال وما جلى عنه أهله من العدو فتركوه بغير إيجاف ولا قتال، فهو كله فيء حكمه حكم الخمس، وقد مضى القول في افتتاح خيبر في أول هذا الرسم، فلا معنى لإعادته.

.مسألة قالوا له تؤمننا وإلا قتلناك فأمنهم:

من سماع عيسى بن دينار من ابن القاسم من كتاب أوله أوصى أن ينفق على أمهات أولاده قال عيسى بن دينار: قال ابن القاسم: لا أمان مع السيف- إذا قالوا له تؤمننا؛ وإلا قتلناك؛ فأمنهم على ذلك، فلا أمان لهم، ويقتلون؛ فإذا خلوه ثم قالوا تؤمننا فأمنهم، فهو أمان بمنزلة ما لو قالوا له نخليك على أن تؤمننا، قيل له: إن كان يخاف إن لم يفعل أن يقتلوه، قال: وما يدريه- أو يحملوك إلى موضع آخر ويذهبوا به؛ وفي المسألة: ولو شاؤوا أن ينفذوا نفذوا، وفي بعضها بعدما أشرف عليهم المسلمون، ليس هذا كله بأمان، إلا أن يخلوه ولا يشترطوا عليه شيئا.
قال محمد بن رشد: اضطرب قوله في الرواية إذا قالوا له نخليك على أن تؤمننا، فقال: في أولها إن ذلك أمان بمنزلة إذا أمنهم بعد أن خلوه. وقال في آخرها ليس ذلك بأمان، إلا أن يخلوه ولا يشترطوا عليه شيئا، وهو نص قول ابن حبيب في الواضحة، واختلف إذا أمنهم وهو أسير دون أن يخلوه، فقال: في سماع أصبغ بعد هذا إن أمانه جائز- إن كان آمنا على نفسه، وقوله في ذلك مقبول، قال ابن المواز: فإن اختلف قوله في ذلك أخذ بقوله الأول، وقال سحنون: لا يجوز أمانه ولا يصدق أنه كان آمنا على نفسه، وهذا من الضرر على المسلمين، وما يقدر الأسير إذا طلب منه الأمان إلا أن يؤمنهم، ولا اختلاف في جواز أمانه بعد أن خلوه، ولا في أن أمانه لا يجوز- إذا قالوا له تؤمننا وإلا قتلناك.

.مسألة الهدية تأتي الإمام في أرض العدو من العدو:

وقال في الهدية تأتي الإمام في أرض العدو من العدو، أتكون له خاصة أم للجيش؟ قال: لا أرى هذا يأتيه إلا على وجه الخوف، فأراه لجماعة الجيش، إلا أن يعلم أن ذلك إنما هو من قبل قرابة أو مكافأة كوفئ بها؛ فأراها له خاصة- إذا كان كذلك؛ ومثل الرومي يسلم فيولى فيدخل فيهدي له القرابة وما أشبه ذلك، قيل له: فالرجل من الجيش تأتيه الهدية، قال: هذا له خاصة لا شك فيه؛ ومثل أن يحلوا بحصن فيعطيه بعض أقاربه المال- وهو من الجيش، فهو له خاص.
قال محمد بن رشد: قال في الهدية تأتي الإمام في أرض العدو إنها لجماعة الجيش، إلا أن يعلم أن ذلك من قبل قرابة أو مكافأة- ولم يفرق بين أن تأتيه من الطاغية، أو من رجل من الحربيين، وذلك يفترق، أما إذا أتته من الطاغية، فلا اختلاف في أنها لا تكون له، واختلف هل تكون غنيمة للجيش، أو فيئا لجميع المسلمين؛ فقال: هاهنا إنها تكون للجيش- يريد غنيمة لهم، وتخمس، وقيل إنها تكون فيئا لجميع المسلمين لا خمس فيها كالجزية، وهذا يأتي على ما حكى ابن حبيب فيما أخذه والي الجيش صلحا من بعض الحصون التي نزل عليها، وأما ما أتته من رجل من الحربيين، فقد روي عن أشهب أنها تكون له إذا كان الحربي لا يخاف منه، واختلف إذا أتت الأمير الهدية من الطاغية أو غيره من العدو قبل أن يدرب في بلاد العدو، فحكى الداودي في كتاب الأموال أنها تكون له، والصحيح المشهور المعلوم أنها تكون فيئا لجميع المسلمين، وأن الأمير في ذلك بخلاف النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فيما قبل من هدايا عظماء الكفار، ككسرى، والمقوقس صاحب مصر، وملك ذي يزن، والنجاشي، وغيرهم؛ لأن الله اختصه في أموال الحرب بخاصة، خالف فيها بينه وبين غيره من أمته، بما نصره به من الرعب، فقال:
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} [الحشر: 6]- إلى قوله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6]. من ذلك أموال بني النضير- كانت صافية لرسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، ويجعل ما بقي في الخيل والكراع؛ فكذلك هداياهم إنما كانت تأتيه إجلالا له لحرمته وهيبة النبوءة، وما خصه الله به من الرعب لا لهيبة السلطان؛ إذ لو زال عنه السلطان، لما نقصت حرمته وهيبته، لما خصه الله به من النبوة والكرامة والمنزلة الرفيعة، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وجميع الرسل؛ وقد روي أن عياض بن حمار- وكان حرمي رسول الله- أهدى له هدية فردها، وقال: إنا لا نقبل رفد المشركين. فقيل: إنما رد على عياض بن حمار هديته، وقبل من غيره من الكفار؛ لأن عياض بن حمار كان من المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث، فهم في العرب كالمجوس في العجم، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم. وغيره ممن قبل الهدية منهم، كانوا أهل كتاب، وقد قال الله فيهم: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 46]- الآية. فكان قبول هديتهم أحسن من ردها، وقيل كان ذلك قبل أن ينزل الوحي عليه بقوله عز وجل: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 6]- الآية- والله أعلم. وأما الرجل من الجيش تأتيه الهدية في أرض الحرب من بعض قرابته وما أشبه ذلك، فلا اختلاف- أعلمه- في أنها له.